فصل: (شُرُوطُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْقَوْلُ فِي شُرُوطِهِ:

وَأَمَّا شُرُوطُهُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الطَّهَارَةَ مِنَ الْحَيْضِ كَالطَّوَافِ السعي بين الصفا والمروة سَوَاءٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «افْعَلِي كُلَّ مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، وَلَا تَسْعَيْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» انْفَرَدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ دُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِهِ، إِلَّا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُ بِالطَّوَافِ.

.الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِهِ:

وَأَمَّا تَرْتِيبُهُ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَأَنَّ مَنْ سَعَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَرْجِعُ فَيَطُوفُ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مَكَّةَ، فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى أَصَابَ النِّسَاءَ فِي الْعُمْرَةِ أَوْ فِي الْحَجِّ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ وَالْهَدْيُ أَوْ عُمْرَةٌ أُخْرَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ السَّعْيِ وَصِفَتِهِ وَشُرُوطِهِ الْمَشْهُورَةِ وَتَرْتِيبِهِ.

.الْخُرُوجُ إِلَى عَرَفَةَ:

وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِي هَذَا الْفِعْلَ لِلْحَاجِّ: فَهُوَ الْخُرُوجُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى وَالْمَبِيتُ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِهَا مَقْصُورَةً، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَجِّ لِمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ مَشَى الْإِمَامُ مَعَ النَّاسِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ وَوَقَفُوا بِهَا. الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْفِعْلِ يَنْحَصِرُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ.

.حُكْمُ الْوُقُوفِ:

أَمَّا حُكْمُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ، وَالْهَدْيُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ».

.صِفَةُ الْوُقُوفِ:

وَأَمَّا صِفَتُهُ: فَهُوَ أَنْ يَصِلَ الْإِمَامُ إِلَى عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ. وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَجِّ هِيَ لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ، أَوْ لِمَنْ يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ، لِذَلِكَ وَأَنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَهُ بَرًّا كَانَ السُّلْطَانُ أَوْ فَاجِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَطَبَ النَّاسَ - كَمَا قُلْنَا - وَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ بِعَرَفَةَ لِلظَّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَخْطُبُ الْإِمَامُ حَتَّى يُمْضِيَ صَدْرًا مِنْ خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْضَهَا، ثُمَّ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَهُوَ يَخْطُبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤَذَّنُ إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ بِالْأَذَانِ، فَأَذَّنَ كَالْحَالِ فِي الْجُمُعَةِ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ، ثُمَّ يَنْزِلُ وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ تَشْبِيهًا بِالْجُمُعَةِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَذَانُ بِعَرَفَةَ بَعْدَ جُلُوسِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِّلَتْ لَهُ، وَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَاحَ إِلَى الْمَوْقِفِ». وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ، أَوْ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ. وَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ: حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ فِي صِفَةِ حَجِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ - كَمَا قُلْنَا -. وَقَوْلُ مَالِكٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ تُفْرَدَ كُلُّ صَلَاةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَخْطُبْ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ سِرٌّ، وَأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مَكِّيًّا هَلْ يَقْصُرُ بِمِنًى الصَّلَاةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَبِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَبِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ إِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: سُنَّةُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّقْصِيرُ سَوَاءً كَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَحُجَّةُ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ أَحَدًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي: بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْهَا. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُسَافِرِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ وَمِنًى صلاة، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ بِعَرَفَةَ وَلَا بِمِنًى إِلَّا أَيَّامَ الْحَجِّ لَا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَا لِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الْعَدَدِ فِي الْجُمُعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ أَمِيرُ الْحَجِّ مِمَّنْ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَلَا بِعَرَفَةَ صَلَّى بِهِمْ فِيهَا الْجُمُعَةَ إِذَا صَادَفَهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ وَالِي مَكَّةَ يَجْمَعُ بِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ.

.[شُرُوطُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ]:

وَأَمَّا شُرُوطُهُ: فَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شروطه بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ ارْتَفَعَ فَوَقَفَ بِجِبَالِهَا دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوَقَفَ مَعَهُ كُلُّ مَنْ حَضَرَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَيْقَنَ غُرُوبَهَا وَبَانَ لَهُ ذَلِكَ دَفَعَ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ سُنَّةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ مِنْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَيَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ يَقِفْ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ الدِّيلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ». وَهُوَ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمَامِ وَبَعْدَ الْغَيْبُوبَةِ أَجْزَأَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَشَرْطُ صِحَّةِ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ يَقِفَ لَيْلًا. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعٍ فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟
فَقَالَ: مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا، وَوَقَفَ هَذَا الْمَوْقِفَ حَتَّى نُفِيضَ، أَوْ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ»
. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَهَارًا أَنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَمَنِ اشْتَرَطَ اللَّيْلَ احْتَجَّ بِوُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ. لَكِنْ لِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ وُقُوفَهُ بِعَرَفَةَ إِلَى الْمَغِيبِ قَدْ نَبَّأَ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ الْأَفْضَلِ إِذْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَمَبِيتٌ». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ بِعُرَنَةَ فَقِيلَ: حَجُّهُ تَامٌّ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَجَّ لَهُ. وَعُمْدَةُ مَنْ أَبْطَلَ الْحَجَّ: النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُبْطِلْهُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِكُلِّ عَرَفَةَ جَائِزٌ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَقَالُوا: وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ تَلْزَمُ بِهِ الْحُجَّةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْأَصْلِ.
فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي السُّنَنِ الَّتِي فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِي الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَهُوَ النُّهُوضُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ غَيْبَةِ الشَّمْسِ وَمَا يُفْعَلُ بِهَا، فَلْنَقُلْ فِيهِ.

.الْقَوْلُ فِي أَفْعَالِ الْمُزْدَلِفَةِ:

وَالْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْحَصِرُ فِي: مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي وَقْتِهِ.

.[حُكْمُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ]:

فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْفِعْلِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ: فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}.

.[صِفَةُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ]:

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مَعَ الْإِمَامِ، وَوَقَفَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَأَنَّ ذَلِكَ الصِّفَةُ الَّتِي فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.[وَقْتُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ]:

وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْوُقُوفُ بِهَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَالْمَبِيتُ بِهَا مَنْ سُنَنِ الْحَجِّ أَوْ مِنْ فُرُوضِهِ المزدلفة؟
فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: هُوَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ، وَمَنْ فَاتَهُ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ وَالْهَدْيُ. وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ، وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالْمَبِيتُ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ دَفَعَ مِنْهَا إِلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُصَلِّ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: مَا صَحَّ عَنْهُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ لَيْلًا، فَلَمْ يُشَاهِدُوا مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِهَا. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ - وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ-: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ - يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ بِجَمْعٍ، وَكَانَ قَدْ أَتَى قَبْلَ ذَلِكَ عَرَفَاتٍ- لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}.
وَمِنْ حُجَّةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلًا وَدَفَعَ مِنْهَا إِلَى قَبْلِ الصُّبْحِ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاتَ فِيهَا وَنَامَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا يُضْعِفُ احْتِجَاجَهُمْ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَالْمُزْدَلِفَةُ وَجَمْعٌ: هُمَا اسْمَانِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَسُنَّةُ الْحَجِّ فِيهَا - كَمَا قُلْنَا: أَنْ يَبِيتَ النَّاسُ بِهَا وَيَجْمَعُوا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَيُغَلِّسُوا بِالصُّبْحِ فِيهَا.

.الْقَوْلُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ:

وَأَمَّا الْفِعْلُ بَعْدَهَا: فَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (وَهِيَ الْمُزْدَلِفَةُ) بَعْدَ مَا صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى مِنًى، وَأَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ (وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ) رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ». وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَنْ رَمَاهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ - أَعْنِي: بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا - فَقَدْ رَمَاهَا فِي وَقْتِهَا. وَأَجْمَعُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْمِ يَوْمَ النَّحْرِ مِنَ الْجَمَرَاتِ غَيْرَهَا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، فَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَحُجَّةُ مَنْعِ ذَلِكَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَقَالَ: لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ». وَعُمْدَةُ مَنْ جَوَّزَ رَمْيَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ: «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَمَضَتْ فَأَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا». وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ: «أَنَّهَا رَمَتِ الْجَمْرَةَ بِلَيْلٍ وَقَالَتْ: إِنَّا كُنَّا نَصْنَعُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ هُوَ مِنْ لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَأَنَّهُ إِنْ رَمَاهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ: أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُرِيقَ دَمًا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يَرْمِهَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَرَمَاهَا مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنَ الْغَدِ رمي جمرة العقبة، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَمَى مِنَ اللَّيْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إِلَى الْغَدِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ أَخَّرَهَا إِلَى اللَّيْلِ أَوْ إِلَى الْغَدِ وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ - أَعْنِي: أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا -. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ السَّائِلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ، قَالَ لَهُ: لَا حَرَجَ». وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الَّذِي رَمَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ السُّنَّةُ، وَمَنْ خَالَفَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ لِلرُّعَاةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا مَضَى يَوْمَ النَّحْرِ، وَرَمَوْا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ النَّفْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَهُ وَلِلْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَإِنْ نَفَرُوا فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَخِيرِ وَنَفَرُوا. وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ لِلرُّعَاةِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ: هُوَ جَمْعُ يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا يُجْمَعُ عِنْدَهُ مَا وَجَبَ، مِثْلُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الثَّالِثِ فَيَرْمِي عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى عِنْدَهُ إِلَّا مَا وَجَبَ، وَرَخَّصَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَمْعِ يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ أَوْ تَأَخَّرَ، وَلَمْ يُشَبِّهُوهُ بِالْقَضَاءِ، وَثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى فِي حِجَّتِهِ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ نَحَرَ بُدُنَهُ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ». وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا سُنَّةُ الْحَجِّ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ مَا أَخَّرَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالْعَكْسِ رمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعُمْدَتُهُمْ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ بِمِنًى وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْحَرْ وَلَا حَرَجَ، ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ، قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». وَرَوَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى مَنْ حَلَقَ قَبْلَ مَحَلِّهِ مِنْ ضَرُورَةٍ بِالْفِدْيَةِ فَكَيْفَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ حَلْقُ الرَّأْسِ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ أَوْ يَرْمِيَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ: دَمٌ لِلْقِرَانِ، وَدَمَانِ لِلْحَلْقِ قَبْلَ النَّحْرِ وَقَبْلَ الرَّمْيِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ في الحج فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ قَدَّمَ مِنْ حَجِّهِ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَ فَلْيُهْرِقْ دَمًا، وَأَنَّهُ مَنْ قَدَّمَ الْإِفَاضَةَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الطَّوَافِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ أَرَاقَ دَمًا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَرْمِيهِ الْحَاجُّ من الجمرات سَبْعُونَ حَصَاةً، مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ بِسَبْعٍ، وَأَنَّ رَمْيَ هَذِهِ الْجَمْرَةِ مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنَ الْعَقَبَةِ مِنْ أَسْفَلِهَا أَوْ مِنْ أَعْلَاهَا أَوْ مِنْ وَسَطِهَا كُلُّ ذَلِكَ وَاسْعٌ، وَالْمَوْضِعُ الْمُخْتَارِ مِنْهَا بَطْنُ الْوَادِي، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّهُ اسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ رَأَيْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ يَرْمِي». وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الرَّمْيَ إِذَا لَمْ تَقَعِ الْحَصَاةُ فِي الْعَقَبَةِ، وَأَنَّهُ يَرْمِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَ جِمَارٍ بِوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ حَصَاةً، كُلُّ جَمْرَةٍ مِنْهَا بِسَبْعٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ مِنْهَا يَوْمَيْنِ وَيَنْفِرَ فِي الثَّالِثِ لِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَدْرُهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَمَى الْجِمَارَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ». وَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ فِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ الْأُولَى فَيَقِفَ عِنْدَهَا وَيَدْعُوَ، وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ وَيُطِيلَ الْمَقَامَ، ثُمَّ يَرْمِيَ الثَّالِثَةَ وَلَا يَقِفَ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رَمْيِهِ». وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَهُمْ عِنْدَ رَمْيِ كُلِّ جَمْرَةٍ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رمي الجمار، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ رَمْيَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: رَمْيُ الْجِمَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْمِ الْجِمَارَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِهَا أَنَّهُ لَا يَرْمِيهَا بَعْدُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْكَفَّارَةِ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ الْجِمَارَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ وَاحِدَةً مِنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ تَرَكَ كُلَّهَا كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ جَمْرَةً وَاحِدَةً فَصَاعِدًا كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ جَمْرَةٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ حِنْطَةً، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ دَمًا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ، إِلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ فِي الْحَصَاةِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي حَصَاتَيْنِ مُدَّانِ، وَفِي ثَلَاثٍ دَمٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي الرَّابِعَةِ الدَّمُ. وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ وَلَمْ يَرَوْا فِيهَا شَيْئًا، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ، فَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسَبْعٍ، وَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسِتٍّ، فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ». وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: هِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. فَهَذِهِ هِيَ جُمْلَةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إِلَى أَنْ يُحِلَّ. وَالتَّحَلُّلُ تَحَلُّلَانِ: تَحَلُّلٌ أَكْبَرُ وَهُوَ: طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَتَحَلُّلٌ أَصْغَرُ وَهُوَ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. وَسَنَذْكُرُ مَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ.

.الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّالِثِ أَحْكَامُ الْأَفْعَالِ:

وَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ فِي الْأَحْكَامِ، وَقَدْ نَفَى الْقَوْلَ فِي حُكْمِ الِاخْتِلَالَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْحَجِّ، وَأَعْظَمُهَا فِي حُكْمِ مَنْ شَرَعَ فِي الْحَجِّ فَمُنِعَهُ بِمَرْضٍ أَوْ بِعَدُوٍّ أَوْ فَاتَهُ وَقْتُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَجِّ أَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِإِتْيَانِهِ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ تُرُوكٌ أَوْ أَفْعَالٌ، فَلْنَبْتَدِئْ مِنْ هَذِهِ بِمَا هُوَ نَصٌّ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ: حُكْمُ الْمُحْصَرِ، وَحُكْمُ قَاتِلِ الصَّيْدِ، وَحُكْمُ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ، وَإِلْقَائِهِ التَّفَثَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ، وَحُكْمُ الْقَارِنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ فِي هَذِهِ هُوَ لِمَكَانِ الرُّخْصَةِ.

.الْقَوْلُ فِي الْإِحْصَارِ:

وَأَمَّا الْإِحْصَارُ: فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَهُوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ بِعَدُوٍّ. فَأَوَّلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلِ الْمُحْصَرُ هَاهُنَا هُوَ الْمُحْصَرُ بِالْمَرَضِ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُحْصَرُ هَاهُنَا هُوَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُحْصَرُ هَاهُنَا هُوَ الْحَصْرُ بِالْمَرَضِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَرَ هَاهُنَا هُوَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ هُوَ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْمَرَضِ بَعْدَ ذَلِكَ فَائِدَةٌ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وَهَذِهِ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْمُحْصَرِ بِالْمَرَضِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمُحْصَرَ هُوَ مَنْ أُحْصِرَ، وَلَا يُقَالُ: أُحْصِرَ فِي الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا يُقَالُ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مُحْصِرٌ، وَصِنْفٌ غَيْرُ مُحْصِرٍ، وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} مَعْنَاهُ مِنَ الْمَرَضِ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَقَالُوا عَكْسَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ أَفْعَلَ أَبَدًا وَفَعَلَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا يَأْتِي لِمَعْنِيِّينَ، إِمَّا فَعَلَ فَإِذَا أَوْقَعَ بِغَيْرِهِ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَإِمَّا أَفْعَلَ فَإِذَا عَرَّضَهُ لِوُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِهِ يُقَالُ: قَتَلَهُ إِذَا فَعَلَ بِهِ فِعْلَ الْقَتْلِ، وَأَقْتَلَهُ إِذَا عَرَّضَهُ لِلْقَتْلِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَأَحْصَرَ أَحَقُّ بِالْعَدُوِّ، وَحَصَرَ أَحَقُّ بِالْمَرَضِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا عَرَّضَ لِلْإِحْصَارِ، وَالْمَرَضُ فَهُوَ فَاعِلُ الْإِحْصَارِ. وَقَالُوا لَا يُطْلَقُ الْأَمْنُ إِلَّا فِي ارْتِفَاعِ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ فَبِاسْتِعَارَةٍ، وَلَا يُصَارُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ حُكْمِ الْمَرِيضِ بَعْدَ الْحَصْرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ أَنَّ الْمُحْصَرَ غَيْرُ الْمَرِيضِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمُحْصَرُ هَاهُنَا الْمَمْنُوعُ مِنَ الْحَجِّ بِأَيِّ نَوْعٍ امْتَنَعَ: إِمَّا بِمَرَضٍ، أَوْ بِعَدُوٍّ، أَوْ بِخَطَإٍ فِي الْعَدَدِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَنِ الْحَجِّ ضَرْبَانِ: إِمَّا مُحْصَرٌ بِمَرَضِ، وَإِمَّا مَحْصَرٌ بِعَدُوٍّ. فَأَمَّا الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ: فَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ أَوْ حَجِّهِ حَيْثُ أُحْصِرَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: يَتَحَلَّلُ حَيْثُ أُحْصِرَ، اخْتَلَفُوا فِي إِيجَابِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ نَحْرِهِ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ، وَفِي إِعَادَةِ مَا حُصِرَ عَنْهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ حَيْثُ حَلَّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى إِيجَابِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ. وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَبْحَهُ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْثُمَا حَلَّ.
وَأَمَّا الْإِعَادَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا يَرَى أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَلَيْهِ حِجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَتَانِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا قَضَى عُمْرَتَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ تَقْصِيرٌ، وَاخْتَارَ أَبُو يُوسُفَ تَقْصِيرَهُ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ فِي أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَّقُوا رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْهَدْيِ، ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودَ لِشَيْءٍ. وَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةَ قَضَاءً لِتِلْكَ الْعُمْرَةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهَا: عُمْرَةُ الْقَضَاءِ. وَإِجْمَاعُهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
فَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ: هَلْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ يَقْضِ؟
وَهَلْ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِالْقِيَاسِ أَمْ لَا؟
وَذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ ثَانٍ غَيْرِ أَمْرِ الْأَدَاءِ.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيَ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ لِأَنَّ الْهَدْيَ فِيهَا نَصٌّ، وَقَدِ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِنَحْرِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرُوا. وَأَجَابَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ هَدْيَ تَحَلُّلٍ، وَإِنَّمَا كَانَ هَدْيًا سِيقَ ابْتِدَاءً، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَكَانِ الْهَدْيِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ: فَالْأَصْلُ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَحْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا نَحَرَهُ فِي الْحِلِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}. وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ حَجًّا وَعُمْرَةً، لِأَنَّ الْمُحْصَرَ قَدْ فَسَخَ الْحَجَّ فِي عُمْرَةٍ، وَلَمْ يُتِمَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ: فَإِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلَ الْحِجَازِ أَنَّهُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَنَّهُ بِالْجُمْلَةِ يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ بِطُولِ مَرَضِهِ انْقَلَبَ عُمْرَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَقَالُوا: يَحِلُّ مَكَانَهُ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ - أَعْنِي: أَنْ يُرْسِلَ هَدْيَهُ وَيُقَدِّرَ يَوْمَ نَحْرِهِ وَيَحِلَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ - وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أُخْرَى». وَبِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِعَدُوٍّ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ إِحْلَالِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ عَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: لَا هَدْيَ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ حُكْمِ هَذَا الْمُحْصَرِ، وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْمُحْصَرِ هُوَ حَصْرُ الْعَدُوِّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِخَطَإٍ مِنَ الْعَدَدِ فِي الْأَيَّامِ، أَوْ بِخَفَاءِ الْهِلَالِ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعُذْرٍ غَيْرِ مُرْضٍ يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ. وَالْمَكِّيُّ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ عِنْدَ مَالِكٍ كَغَيْرِ الْمَكِّيِّ يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَإِعَادَةُ الْحَجِّ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقِفَ بِعُمْرَةٍ وَإِنْ نُعِشَ نَعْشًا. وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ إِنْ بَقِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَتَّى يَحُجَّ حِجَّةَ الْقَضَاءِ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ هَدْيُ الْمُحْصَرِ، لِأَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ فِي حِجَّةِ الْقَضَاءِ، وَكُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُحْصَرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ عَلَيْهِ هَدْيَيْنِ: هَدْيًا لِحَلْقِهِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ نَحْرِهِ فِي حِجَّةِ الْقَضَاءِ، وَهَدْيًا لِتَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَإِنْ حَلَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْعُمْرَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْيٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ نُسُكِ الْحَجِّ.
وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ يَتَأَوَّلُ لِمَكَانِ هَذَا أَنَّ الْمُحْصَرَ إِنَّمَا عَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْهَدْيَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} هُوَ بِعَيْنِهِ الْهَدْيُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَفِيهِ بُعْدٌ فِي التَّأْوِيلِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ بَلْ هُوَ فِي التَّمَتُّعِ الْحَقِيقِيِّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ لَكِنْ تَمَتَّعْتُمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. وَالْمُحْصَرُ يَسْتَوِي فِيهِ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرُهُ بِإِجْمَاعٍ. وَقَدْ قُلْنَا فِي أَحْكَامِ الْمُحْصَرِ الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلْنَقُلْ فِي أَحْكَامِ الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ:

.الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ جَزَاءِ الصَّيْدِ:

فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} هِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِ أَحْكَامِهَا، وَفِيمَا يُقَاسُ عَلَى مَفْهُومِهَا مِمَّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. فَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلِ الْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيمَةِ - أَعْنِي: قِيمَةَ الصَّيْدِ، وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْمِثْلَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ حُكْمِهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَعَامَةً فَعَضلَيْهِ بَدَنَةٌ تَشْبِيهًا بِهَا، وَمَنْ قَتَلَ غَزَالًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَمَنْ قَتَلَ بَقَرَةً وَحْشِيَّةً فَعَلَيْهِ إِنْسِيَّةٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَأْنِفُ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنِ اجْتَزَأَ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ مِمَّا حَكَمُوا فِيهِ جَازَ.
وَمِنْهَا: هَلِ الْآيَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، يُرِيدُ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ يُخَيِّرَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ زُفْرُ: هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ أَوِ الْمِثْلُ إِذَا اخْتَارَ الْإِطْعَامَ إِنْ وَجَبَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ طَعَامًا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: يُقَوَّمُ الصَّيْدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَوَّمُ الْمِثْلُ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَقْدِيرِ الصِّيَامِ بِالطَّعَامِ بِالْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ عِنْدَهُمْ كُلَّ مِسْكِينٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْحِجَازِ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: يَصُومُ لِكُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُطْعَمُ كُلُّ مِسْكِينٍ عِنْدَهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ أَمْ لَا؟
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمَاعَةِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ صَيْدًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمُحْرِمِينَ يَقْتُلُونَ الصَّيْدَ وَبَيْنَ الْمُحِلِّينَ يَقْتُلُونَهُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحْرِمِينَ جَزَاءٌ، وَعَلَى الْمُحِلِّينَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَاتِلَ الصَّيْدِ؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْإِطْعَامِ: فَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ إِنْ كَانَ ثَمَّ طَعَامٌ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَيْثُمَا أَطْعَمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُطْعِمُ إِلَّا مَسَاكِينَ مَكَّةَ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ، لِلنَّصِّ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلَالِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ: فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ في قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ}. وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ». وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ وَأَكَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَرَوَى عَنْ عَطَاءٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّ فِيهِ كَفَارَّتَيْنِ. فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ: فَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا فَنَقُولُ: أَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَحُجَّتُهُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِقَابِ، وَالْكَفَّارَاتِ عِقَابٌ مَا.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَ الْجَزَاءَ عِنْدَ إِتْلَافِ الصَّيْدِ بِإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تُضَمَّنُ خَطَأً وَنَسِيَانًا، لَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا الْقِيَاسَ اشْتِرَاطُ الْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا - أَيِ الْعَمْدِ - إِنَّمَا اشْتَرَطَ لِمَكَانِ تَعَلُّقِ الْعِقَابِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وَذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ الْوَبَالَ الْمَذُوقَ هُوَ فِي الْغَرَامَةِ، فَسَوَاءٌ قَتَلَهُ مُخْطِئًا أَوْ مُتَعَمِّدًا قَدْ ذَاقَ الْوَبَالَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُعَاقَبٍ، وَأَكْثَرُ مَا تَلْزَمُ هَذِهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ لِمَنْ أَثْبَتَهَا عَلَى النَّاسِي إِلَّا الْقِيَاسُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمِثْلِ: هَلْ هُوَ الشَّبِيهُ أَوِ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ؟
فَإِنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ: أَنَّ الْمِثْلَ يُقَالُ عَلَى الَّذِي هُوَ مِثْلٌ، وَعَلَى الَّذِي هُوَ مِثْلٌ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنَّ حُجَّةَ مَنْ رَأَى أَنَّ الشَّبِيهَ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ: أَنَّ انْطِلَاقَ لَفْظِ الْمِثْلِ عَلَى الشَّبِيهِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَظْهَرُ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى الْمِثْلِ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنْ لِمَنْ حَمَلَ هَاهُنَا الْمِثْلَ عَلَى الْقِيمَةِ دَلَائِلُ حَرَّكَتْهُ إِلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمِثْلَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمِثْلَ إِذَا حُمِلَ هَاهُنَا عَلَى التَّعْدِيلِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ، فَإِنَّ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَا يُلْقَى لَهُ شَبِيهٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمِثْلَ فِيمَا لَا يُوجَدُ لَهُ شَبِيهٌ هُوَ التَّعْدِيلُ، وَلَيْسَ يُوجَدُ لِلْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ فِي الْحَقِيقَةِ شَبِيهٌ إِلَّا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ نَصَّ أَنَّ الْمِثْلَ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا فِي التَّعْدِيلِ وَالْقِيمَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّبِيهِ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّعْدِيلِ فَهُوَ شَيْءٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَلِذَلِكَ هُوَ كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا يَأْتِي التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ بِمُشَابِهٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ عَدْلُ الْقِيمَةِ طَعَامًا، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ هَلِ الْمُقَدَّرُ هُوَ الصَّيْدُ، أَوْ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ إِذَا قُدِّرَ بِالطَّعَامِ؟
فَمَنْ قَالَ: الْمُقَدَّرُ هُوَ الصَّيْدُ قَالَ: لِأَنَّهُ الَّذِي لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ رَجَعَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالطَّعَامِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْوَاجِبُ مِنَ النَّعَمِ قَالَ: لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ قِيمَتُهُ إِذَا عُدِمَ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ - أَعْنِي: شَبِيهَهُ -.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنَّهُ الْتَفَتَ إِلَى حَرْفِ (أَوْ) إِذْ كَانَ مُقْتَضَاهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ التَّخْيِيرَ.
وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَى تَرْتِيبِ الْكَفَّارَاتِ فِي ذَلِكَ فَشَبَّهَهَا فِي الْكَفَّارَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّرْتِيبُ بِاتِّفَاقٍ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي: هَلْ يُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِي الصَّيْدِ الْوَاحِدِ الَّذِي وَقَعَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ؟
فَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الْحُكْمُ شَرْعِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، أَمْ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى؟
فَمَنْ قَالَ: هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى قَالَ: مَا قَدْ حُكِمَ فِيهِ فَلَيْسَ يُوجَدُ شَيْءٌ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُ، مِثْلُ النَّعَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ أَشْبَهُ بِهَا مِنَ الْبَدَنَةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ الْحُكْمِ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ عِبَادَةٌ قَالَ: يُعَادُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْوَاحِدِ: فَسَبَبُهُ، هَلِ الْجَزَاءُ مُوجِبُهُ هُوَ التَّعَدِّي فَقَطْ، أَوِ التَّعَدِّي عَلَى جُمْلَةِ الصَّيْدِ؟
فَمَنْ قَالَ: التَّعَدِّي فَقَطْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْقَاتِلَةِ لِلصَّيْدِ جَزَاءً. وَمَنْ قَالَ: التَّعَدِّي عَلَى جُمْلَةِ الصَّيْدِ قَالَ: عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِالْقِصَاصِ فِي النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْأَنْفُسِ - وَسَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَتَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمُحْرِمِينَ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُحْرِمِينَ الْقَاتِلِينَ فِي الْحَرَمِ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُحْرِمِينَ، وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ جَزَاءً فَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ عَنْهُمُ الْجَزَاءُ جُمْلَةً لَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيدَ فِي الْحَرَمِ صَادَ فِي جَمَاعَةٍ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَزَاءَ هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْإِثْمِ فَيُشْبِهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ إِثْمُ قَتْلِ الصَّيْدِ بِالِاشْتِرَاكِ فِيهِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَتَبَعَّضَ الْجَزَاءُ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَاتِلَ الصَّيْدِ؟
فَالسَّبَبُ فِيهِ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ الظَّاهِرِ لِمَفْهُومِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَكَمَيْنِ إِلَّا الْعَدَالَةَ، فَيَجِبُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ مِمَّنْ يُوجَدُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، سَوَاءٌ كَانَ قَاتِلَ الصَّيْدِ أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ.
وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ: فَهُوَ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ، فَسَبَبُهُ الْإِطْلَاقُ - أَعْنِي: أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ مَوْضِعٌ -، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالزَّكَاةِ فِي أَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ فَقَالَ: لَا يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الرِّفْقُ بِمَسَاكِينِ مَكَّةَ قَالَ: لَا يُطْعِمُ إِلَّا مَسَاكِينَ مَكَّةَ. وَمَنِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الْإِطْلَاقِ قَالَ: يُطْعِمُ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَلَالِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟
فَسَبَبُهُ: هَلْ يُقَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ؟
وَهَلِ الْقِيَاسُ أَصْلٌ مَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ عِنْدَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ؟
فَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَنْفُونَ قِيَاسَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِمَنْعِهِمُ الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ، وَيَحِقُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَمْنَعَهُ لِمَنْعِهِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي تَعَلُّقِ الِاسْمِ بِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ}.
وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ».
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَتَلَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ هَلْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ أَمْ جَزَاءَانِ؟
فَسَبَبُهُ: هَلْ أَكْلُهُ تَعَدٍّ ثَانٍ عَلَيْهِ سِوَى تَعَدِّي الْقَتْلِ أَمْ لَا؟
وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ فَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّعَدِّي الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟
وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ أَثِمَ. وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي كَفَّارَةِ الْجَزَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَجِبُ، وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْمَصِيدَاتِ.
وَالثَّانِي: مَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ، يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ أُصُولِ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «أَنَّهُ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ» وَالْيَرْبُوعُ: دُوَيْبَةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ وَذَنَبٌ، تَجْتَرُّ كَمَا تَجْتَرُّ الشَّاةُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْكُرُوشِ، وَالْعَنْزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنَ الْمَعْزِ مَا قَدْ وُلِدَ أَوْ وُلِدَ مِثْلُهُ. وَالْجَفْرَةُ وَالْعَنَاقُ: مِنَ الْمَعْزِ، فَالْجَفْرَةُ: مَا أَكَلَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرِّضَاعِ، وَالْعَنَاقُ: قِيلَ: فَوْقَ الْجَفْرَةِ، وَقِيلَ: دُونَهَا. وَخَالَفَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ فِي الْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ: لَا يَقُومَانِ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ هَدْيًا وَأُضْحِيَةً، وَذَلِكَ الْجَذَعُ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ قَوْلِهِ: تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْجَذَعِ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِمَّا سِوَاهُ، وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ مِثْلُ مَا فِي كِبَارِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْدَى صِغَارُ الصَّيْدِ بِالْمِثْلِ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ، وَكِبَارُ الصَّيْدِ بِالْكِبَارِ مِنْهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُجَّتُهُ: أَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمِثْلِ، فَعِنْدَهُ فِي النَّعَامَةِ الْكَبِيرَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الصَّغِيرَةِ فَصِيلٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي حَمَامِ مَكَّةَ صيده وَغَيْرِهَا: فَقَالَ مَالِكٌ فِي حَمَامِ مَكَّةَ: شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ غَيْرِ مَكَّةَ، فَقَالَ مَرَّةً: شَاةٌ كَحَمَامِ مَكَّةَ، وَمَرَّةً قَالَ: حُكُومَةٌ كَحَمَامِ الْحِلِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ حَمَامٍ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ سِوَى الْحَرَمِ قِيمَتُهُ. وَقَالَ دَاوُدُ كُلُّ شَيْءٍ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ فِيهَا إِلَّا الْحَمَامُ فَإِنَّ فِيهِ شَاةً، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ شَاةٌ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ إذا أصابه المحرم: فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ - أَعْنِي: جَزَاءَ النَّعَامَةِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِأَنْ يُرْسِلَ الْفَحْلُ عَلَى الْإِبِلِ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَقَاحُهَا سَمَّيْتَ مَا أَصَبْتَ مِنَ الْبَيْضِ، فَقُلْتُ: هَذَا هَدْيٌ، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَانٌ مَا فَسَدَ مِنَ الْحَمْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَإِلَّا فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمِ ثَمَنُهُ» مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ، قَالَ: وَفِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهِ الْجَزَاءُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْجَرَادِ قِيمَتُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ حَفْنَةِ طَعَامٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَهُوَ لَهُ قِيمَةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِيهَا تَمْرَةً مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: فِيهَا صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ وَهُوَ شَاذٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ فِيهَا شُوَيْهَةً وَهُوَ أَيْضًا شَاذٌّ. فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَزَاءِ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الْجَزَاءُ فِيهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ للمحرم مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْحَقُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ يَلْحَقُ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالًا كُلَّهُ لِلْمُحْرِمِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَشْهُورَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَنَقُولُ: ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جُنَاحٌ فِي قَتْلِهِنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ». وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ قَتْلِ مَا تَضَمَّنَهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَيْدٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَوْصَافًا مَا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا بَابٌ مِنَ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، أَوْ بَابٌ مِنَ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، وَالَّذِينَ قَالُوا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ عَامٍّ أُرِيدَ بِذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ سَبُعٍ عَادٍ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَادٍ مِنَ السِّبَاعِ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، وَلَمْ يَرَ قَتْلَ صِغَارِهَا الَّتِي لَا تَعْدُو، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا أَيْضًا لَا يَعْدُو. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْأَفْعَى وَالْأَسْوَدِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُقْتَلُ الْأَفْعَى وَالْأَسْوَدُ». وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى قَتْلَ الْوَزَغِ، وَالْأَخْبَارَ بِقَتْلِهَا مُتَوَاتِرَةً، لَكِنْ مُطْلَقًا لَا فِي الْحَرَمِ، وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَالِكٌ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ مِنَ الْكِلَابِ الْعَقُورَةِ إِلَّا الْكَلْبُ الْإِنْسِيُّ وَالذِّئْبُ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ فَهُوَ مَعْنِيٌّ فِي الْخَمْسِ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا أُحِلَّ لِلْحَلَالِ، وَأَنَّ الْمُبَاحَةَ الْأَكْلُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهَا بِإِجْمَاعٍ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْبَهَائِمِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَفْهَمْ مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ الْإِنْسِيِّ فَقَطْ بَلْ مِنْ مَعْنَاهُ كُلُّ ذِئْبٍ وَحْشِيٍّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الزُّنْبُورِ فَبَعْضُهُمْ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ، وَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّهُ أَضْعَفُ نِكَايَةً مِنَ الْعَقْرَبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ أَلْحَقَ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يُشْبِهُ إِنْ كَانَ لَهُ شَبَهٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، فَخَصَّصَتْ عُمُومَ الِاسْمِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ، فَذَكَرَ فِيهِنَّ الْغُرَابَ الْأَبْقَعَ». وَشَذَّ النَّخَعِيُّ فَمَنَعَ الْمُحْرِمَ قَتْلَ الصَّيْدِ إِلَّا الْفَأْرَةَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ هُوَ مِنْهُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّمَكَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا السَّمَكِ هل هو من صيد البحر أم لا؟
، وَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ فَلَيْسَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مَا كَانَ مُحْرِمًا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُحِلُّ جَمِيعَ مَا فِي الْبَحْرِ فِي أَنَّ صَيْدَهُ حَلَالٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ يَعِيشُ فِي الْبِرِّ وَفِي الْمَاءِ بِأَيِّ الْحُكْمَيْنِ يُلْحَقُ؟
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالَّذِي عَيْشُهُ فِيهِ غَالِبًا، وَهُوَ حَيْثُ يُولَدُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ طَيْرَ الْمَاءِ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ حَيَوَانِ الْبَرِّ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ فِي طَيْرِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ أَغْلَبُ عَيْشِهِ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي نَبَاتِ الْحَرَمِ هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا جَزَاءَ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِثْمُ فَقَطْ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ الْجَزَاءُ فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفِيمَا دُونَهَا شَاةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ غَرْسِ الْإِنْسَانِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ نَابِتًا بِطَبْعِهِ فَفِيهِ قِيمَةٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يُقَاسُ النَّبَاتُ فِي هَذَا عَلَى الْحَيَوَانِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا». فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي مَشْهُورِ مَسَائِلِ هَذَا الْجِنْسِ، فَلْنَقُلْ فِي حُكْمِ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ.